آخبار عاجل

رواية مايا  بقلم: محمد مصطفي الخياط .. الفصل الثالث

13 - 06 - 2021 12:25 881


(شبابيك ذاكرتى آثار مرور قذائف حبيباتى، حائط مبكى مُلئت فراغاته وثقوبه بلفائف ذكرياتهن بعد ما دَوَنّْها بحبر سرى ولغة قديمة مجهولة على أوراق بردى صنعها المصرى القديم)

 

القاهرة، شتاء 2003

 


 (لمين يا قمر، تطلع لمين، تسهر لمين ؟
لمين .. لمين يا قمر .. تسهر لمين ؟
إحنا يا حبيبي في رحلة سفر
والسما عالية وبعيد القمر)

 

يتسرب صوت عفاف راضى من شقوق الوحدة مترنمًا بكلمات عبد الرحيم منصور وموسيقى بليغ حمدى، يتهادى شجيًا ناسجًا خلفية طبيعية معبرة عن حالتي، يتسرب في مسامى وخلاياى، يرفع مستوى استرخائى، اسبح في فضاء الكلمات أجد تطابقًا بين المعانى وحالتى؛ وحدة، سفر، آمال بعيدة المنال، يأس، رجاء، خيبات، مساءات حزينة، دموع، بسمات، فراق، ورحيل من مدينة إلى أخرى، أنهكت دابتى وقصمت ظهرها ووقفت وحدى في صحراء عذاباتى، أطأ ظلى بقدمى كي لا يهرب.

 

أقيم وحدى في القاهرة، أقضى أيامى بين العمل والبيت والأصدقاء، شباب وانطلاق، سنوات لا يُؤنس ليلى صوت حبيب؛ باردة وسادتى. تَرَكت ندوب الماضى آثارها على ملامحي وجئت أبحث عن الوعد.

 

للقاهرة أجواء مختلفة لم اعتدها في البداية، ربطتنى سنوات الجامعة بجيهان والإسكندرية وأجوائها، في الصيف تغدو حورية تعبث بقرص الشمس الذهبى، تستعرض مهاراتها في قذفه على سطح الماء من الضفة الشرقية إلى الغربية دون أن يبتل، فيما يصيبنا زحام صيفها بالضجر، نترقب الشتاء بأمطاره ورعوده ونواته، ومناورات تفادى البلل.


لا تعرف القاهرة تلك الطقوس، انشغلت بأُناسها وأحوالها عن الانتباه لتغير الفصول، رحبة الأركان، ممتدة الحدود، تخبأ التاريخ تحت جلد الشوارع والحارات، لأمسياتها دفء، ولنيلها جمال، كانت أجمل ساعاتي تلك التى أقضيها بأحد الأندية المطلة عليه أراقب انتقال اليوم من النهار إلى الليل، للحظات الميلاد جلالها؛ يتحول سطح النيل الفضى عصرًا إلى الذهبى قُبيل الغروب، ثم اللون الداكن الأسود ليلاً، فيما تسبح المراكب على سطحه تتوهج أنوارها في المساء فتتحول إلى نجوم سيارة على صفحته. 

 

منذ ارتبطت بالنيل وأنا اتطلع لتلك العمارات المطلة عليه، نسجت عنها في خيالى قصصًا بلا عدد، فلما تحقق الحلم تركت القاهرة والنيل واغتربت، وأيقنت أن قصصي محض خيال. 

 

كثيرًا ما تناولت قهوتى بمطعم الشجرة أطالع بعض الروايات والكتب، أو أدون بعضًا من خواطر عَشَمًا في غد يكسوه خير من فوقه خير، ينثر الزهور في طرقاتى، ينديها بالماء المقطر والمعطر بالورد والأمانى، انحنى أقطف زهرة بيضاء مُشربة بحمرة لأرشقها في مفرق شعر حبيبتى. 

 

أنظر في لا شيء، وأفكر في لا شئ، اتسكع في مُدن ذاكرتى الخَرِبَة إثر قصفها بآخر قرار انفصال، يحكى رصاص الحب الفاشل على جدرانها حكايات لم تحكها شهرزاد، ولا سمع بها شهريار في لياليه المتخمة بحكايات الجن والإنس.

 

شبابيك ذاكرتى آثار مرور قذائف حبيباتى، حائط مبكى مُلئت فراغاته وثقوبه بلفائف ذكرياتهن بعد ما دَوَنّْها بحبر سرى ولغة قديمة مجهولة على أوراق بردى صنعها المصرى القديم.

 

يطل وجه غادة، آسرًا جذابًا؛ يشدنى إليه، عندما رأيتها أول مرة التصقت عيناى بها ولم أعرف كيف انتزعهما بعيدا عنها؛ كانت بين الطول والقصر، تناسقت قسماتها، تظن أنها توشك أن تغادر حافة النحافة إلى بدء الامتلاء، لكنها أبدًا ما تجاوزت تلك المنطقة الحرجة، استقامت تضاريسها وانحنت بما يظهر أنوثتها، لدنة من دون إفراط، زادها لون بشرتها الخمرى حضورًا وفتنة مع عينين واسعتين يتلألأ سوادهما في بحيرتين ناصعتى البياض، ويقف شعرها الكستنائى دائمًا على اعتاب كتفين مستديرين ينحدران نحو خصر ضامر.  

 

كانت زهرة قرنفل تحط عليها النحلات فتنهل من عبيرها فلا شبعت فترحل ولا مَلْت فتزهد، جوع دائم وشوق يتبعه شوق، ينبوع حياة تتابع دفقاته في كُريات تتلألأ في ضوء الشمس فحط عليها عصفور شارد.


كانت لى المرفأ والسكن؛ كل شيء يجذبنى إليها، وقعت في هواها فصار كل ما فيها جميل. وهل ترى عين المحبين سوى الجمال.

 

لم أقلق من شيء قلقى من نظرات أبى بعد لقاءه الأول بها؛ ذهبنا معًا لخطبتها، لكن عينيه الحائرتين بينى وبينها ظلا يشغلانى طوال الجلسة، وعندما عُدنا للبيت حاولت أن أعرف منه، فلم أخرج منه بشيء، أبى وأنا أعرفه، لن يبوح بكلمة، ربما تخرج من استجواب الصخر ببعض كلمات أو إشارات ولا تخرج من أبى بشيء. 

 

مرت الخطبة بحلوها ومرها، غض كل منا؛ أنا وغادة، الطرف عن عيوب الآخر حتى إذا ما وقع الزواج لم يعد بُد من المكاشفة والمواجهة فمرت الأيام بطيئة ثقيلة، لم تتفق طباعنا ولا مشاربنا، كنا على خلاف دائم كأنما تزوجنا لنختلف.

 

صدقت نبوءة عرافة إشبيلية؛ تأملت كفى المبسوط في يدها طويلاً، ثم نظرت في عينيي وقالت في هدوء قاض يتلو حكمًا نافذًا لا استئناف فيه؛ 
-    تسكن مدنًا بعدد ما تعرف من النساء
ابتسمت وداعبتها قائلاً،
-    سوف أعرف في كل يوم امرأة واتنقل بين مدن العالم على بساط الريح
بادلتنى ابتسامة باهتة وقالت بأسي،
-    اتمنى لك السعادة من كل قلبى
يا لمراوغة الكلمات، الآن فهمت معناها، في أوقات التفاؤل ننظر للجانب المبهج ويغيب عن ناظرينا ما عداه.

كنت انتظر غادة في مطعم الشجرة، وطال بي الانتظار، فما أن لمحتها قادمة تتهادي وكأن شيئًا لم يكن انفجرت فيها، 
-    لم تأخرتِ ؟
ثم أردفت غاضبًا، 
-    انتظرك منذ أكثر من ساعة ؟!
كانت تهم بالجلوس إلى الطاولة، وفى عينيها تحد وغضب، أفلتت حقيبة يدها من حول كتفها ووضعتها على الطاولة، دون ان تنبس بكلمة، مدت يدها إلى قائمة الطعام، فتحتها ثم أغلقتها ووضعتها أمامها في عصبية، أغمضت عينيها وتنهدت، ثم أخرجت سيجارة وراحت تدخن كأننى غير موجود.

حبست غيظى وكتمت حنقى عليها. كنا قد اتفقنا ان نلتقى في المطعم بعد انتهاء مواعيد عملنا، وبدلاً من الغداء في البيت نتناوله في مطعم الشجرة لنعيد ذكرى أيام قضيناها معًا في هذا المكان؛ ذات الطاولة القابعة أسفل شجرة الفيكس المشذبة الأفنان كبرميل ضخم، مسكن العصافير وفندقها الفخيم، القابعة عند آخر سور المطعم، على النيل مباشرة؛ كثيرًا ما ألقينا بضع حبات حمص وأرز في الماء ورحنا نتابع تكالب السمك على اقتناصها، وكلما ارتفعت وتيره الصراع على فتات الخبز، ازداد شغفنا ورحنا نتابع بأعيننا ونشير بأصابعنا نحوها ونضحك ملء قلوبنا.   

كنا نجد في هذه العادات بعضًا من أسباب السرور والبهجة لحبيبين توجا حبهما بإعلان الخطبة، وراحا يستعدان لبدء حياة جديدة تملأها السعادة. 

رغم تنبيهاتى المتكررة لها، لم تغير طباعها؛ لا حساب لواجبات بيت أو زوج ولا التزام بمواعيد ولا اكتراث بمشاعر الآخرين. تكفى رسالة قصيرة تتلقاها من صديقة لنسف ما خططنا له من ترتيبات، أهملت البيت والزوج وقسمت وقتها بين مواقع التواصل الاجتماعى؛ وإن شئت الدقة مواقع التشتت الاجتماعى، وأصدقائها، بينما اتقلب أنا على سريرى ضجرًا؛ تمر الليالى تلو الليالى فلا نلتقى كزوجين، أنبهها حينًا مداعبًا وحينًا مؤنبًا فلا تكاد تستقيم حتى تعود إلى سيرتها الأولى؛ أصدقاء مقربون وزوج مهمل.  

لم أتأثر بغيابها كثيرًا بعد انفصالنا، فما أكثر ما غابت في حضورها، تساوى زواجي وعزوبيتي فآثرت الانفصال. عندها تذكرت وقت عدنا؛ أنا وأبى وأمى، من زيارتنا الأولى لها، وفهمت معنى صمت أبى كما فهمت معانى كلمات عرافة إشبيلية ونظرتها الحزينة.

تعجلت الأيام والليالى حتى يجمعنا بيت واحد، وعندما تحقق الحلم صرت استبطأ خطو الأيام واعتب عليها تكاسل خطو الليل والنهار، يا لا اختلاف الزمن في الفرح والحزن، عابر كومضه وثقيل كجبل.

لم أبلغ أحدًا بانفصالنا، كنت في العمل عندما تلقيت مكالمة تليفونية من أخى يطمأن فيها على، وسألنى بعفوية عن غادة فأجبته،
-    أظنها الآن بخير
تساءل ضاحكا،
-    كيف ؟ 
-    أبدًا .. انفصلنا من يومين
-    إيه ؟
-    انفصلنا 
-    إمتى ؟ إزاى ده حصل ؟ ليه ما قلتش ؟
-    كل شيء تم بسرعة .. ما كان فيه متسع أبلغ حد
-    هل بلغت ماما وبابا
-    لا
-    يا ربى
-    ....
-    هل انتهى كل شيء  ؟ .. ممكن اتدخل !!
-    فات أوانه .. 
-    ممكن اتصل بيها
-    صدقنى، اللى حصل هو الصح .. إحنا مقتنعين بما تم
-    ......

لم يمض على انتهاء المكالمة عشر دقائق إلا وأمى تتصل بى -بعد ما أخبرها أخى- وكلها لهفة يخنق صوتها بقايا نحيب وبكاء على قلة البخت والنصيب. بكت حتى استراحت فحزنت لحزنها وتأثرت بضعفها وانكسارها لكنى لم أجرؤ على معاودة الاتصال بها تاركا للجرح فرصة الالتئام ذاتيًا، ولكن ظل نزف ألم أمى يتجدد ما وردت الذكرى.

لم يتصل أبى بى إلا بعد يومين، عقب بجملة واحدة وكأنه يرى ما توقعه حقيقة تتجسد أمام عينيه؛
-    قسمة ونصيب .. الحمد لله
فأمنت على قوله
-    الحمد لله
-    ......

كنت وقتها أسافر بيروت لبعض الوقت ثم أعود للقاهرة؛ أراوح بين مقر المنظمة في العاصمتين، هربًا من كل شيء بحثت عن فرصة للبعد عن القاهرة وأماكن ذكرياتى، لذا لم أتردد في الموافقة عندما عُرض على العمل ببيروت. 
لم أطلب وقتًا للتفكير. وافقت مباشرة. وكأن قدرى أن أرحل من كل مدينة تشهد خيباتى العاطفية كعقاب ينزل بى وأن أُعيد أسطورة سيزيف فتتجدد آلامى مع كل صباح. 

خلف كل هذا، كانت مايا في تلافيف الغيب تنتظرنى وكلانا لاه عن أن الظروف تتهيأ لنبدأ قصة جديدة معًا، يندفع فيها كل منا تجاه الآخر بأقصى ما عنده من عواطف، ثم فجأة نتوقف مذهولين متسائلين، ماذا يحدث وإلى أى مصير نسير.
إلى لقاء في فصل جديد
 



شبكة Gulf 24 منصة إعلامية متميزة تغطى أخبار دول مجلس التعاون الخليجي والوطن العربي والعالم تضم بين صفحاتها الرقمية وأبوابها المتنوعة كل ما تحتاجه لتصبح قريباً من ميدان الحدث حيث نوافيك على مدار الساعة بالخبر والتحليل ونسعى أن نصبح نافذتك إلاخبارية التى تمنحك رؤية راصدة تجعل العالم بين يديك ومهما كانت افكارك واهتماماتك. سواء في حقل السياسية، الاقتصاد، الثقافة

جميع الحقوق محفوظه لشبكه Gulf 24 الاخبارية

Gulf 24 © Copyright 2018, All Rights Reserved